أرسلت بتاريخ : 07\02\2013 | |
| تـآريخ إنضمــآمي : 23/07/2012 | مُشـآركـآتي : 19058 | السٌّمعَة : 28 | | |
| في علاقة الفن بالواقع
الفن والواقع
شكري الولهازي
كثيرا ما نمتدح رواية أو شريطا سينمائيا فنقول انه مكننا من نسيان الواقع و الهروب منه. فالـــفـــــــن يغـــير علاقتنا بالواقع و يجعلنا ننساه بواسطة الأحاسيس التي يوقظها فينا, و رغم ذلك فان الانـــفعال الجــــمــالـــي ليس مجرد لهو ومتعة ان العمل الفني يخاطب فينا العقل و التفكير, و هي دلالة كافية على ان الفن لـــــيس مجرد لعبة مجانية, ذلك ان التجربة الجمالية تغيرنا و تثرينا و تكشف لنا حقيقة ذهلنا عنها بحكم علاقــــتنا الـيومــــــــيـة مع الواقع. ذلك ما يجعلنا نطرح المشكل التالي : هل ان الفن بما هو إنتاج إنساني قادر فعلا عــــــلى تغيير طبيــــــعة علاقتنا بالواقع العيني أم ان الحكم الجمالي و الأحاسيس التي يوقظها فينا العمل الفني هــــــي التي تغير طريقـــتنا في تقبل و فهم العالم ؟ و إذا كان ذلك كذلك, ألا يفقد العمل الفني كل حقيقة و كل نفــــــع و بالــــــــــتـــالي يصبح لا " فعالية " له ؟ إذا كان الفن يغير علاقتنا بالواقع فانه في الحقيقة يغير علاقتنا المباشرة بالواقع الــــــيومي, فعندمــــــا يعجبــنـــــا عملا فنيا نقول عادة انه آسرنا, و إذا وقعنا في الآســـــر نكــــــون كالسجـــــين تماما فـــــي قطيعــــة مــــــــــــع الواقـــع و مــــع العالم الخارجي فنفقد الإحساس بالزمان و المكان الفعليين لنعيش في البعـــــد الـــخــاص بالعمـل الفني. فنــحن لا نقرأ حدث أبو هريرة قال ... إننا أبو هريرة. ينجح العمل الفني في جعـــــــــلنــــــا نـتـــلفــــــت عن العالم المحيط بنــــا لندخل في واقع خيالي له حقيقته الخاصة, لكن قوة هذا الــــتــــــلفـــــت والانقطاع عـــــن الواقع تقاس بالــمدة الـــــتي يستغرقها. ذلك انه بمجرد انتهــائــــنا من الــقراءة نـــتـــحرر و نعود إلى عالــــمنا اليومي. حق لنا القول إذن ان الفن يحقق تغييرا في طبيعة علاقـــــتنــا بالواقع. لــــــــذلك لابد من تنزيل لفظـــــــة الفن ضمن معنى أوسع يشـير إلى كل إنتاج إنساني في مقابل منتوجـات الطــــبيعة. ان صيرورة الإنتاج التقــــنية ليست مجرد رغبة فــــــي التملك, فصنع طاولة ليست غايته الحـــصــــــــــــــول عــلى طاولة بل رغــــــبة في الوجود انـــه وعـــــــي بوجودنا أو بالأحرى وجود واعي. و بالفـــــــــــعـــــل فــــان الصـــنـــع و المراحــــــل التي يفترضـــــــها : )الخيال, التصور, التخطيط, نظام التنفيذ( دلالــــة عــــــلى طبيعة الإنسـان و اختــــــلافـــه عن الحيوان. يقول ماركــس « ان ما يميز أسوأ المهندسين المعماريين مــهــــارة عن امهر النحــــل, هو انـــه يبنــــي الخلية في دماغه قبل ان ينجزها في الشمع » (1) هكذا يغير الفن علاقـــــــــتنا الغريزية المباشــــــــرة التي لنا مع الواقــع. فبالاصطناع يصبح الواقع واقعنا. يقول هيغل « تتحقق إنسانـــيـــة الإنسان بنشاطـــــــــه العملي لأنه مدفوع إلى ان يجد ذاته و يتعرف إلى ذاته فيما هو معطى له مباشرة. هكــــذا يتحدد فــــــــــعـــــــل الإنســـــــــان كمحاولة لنزع الجانــــب الغريب من العالم الخارجي والاستمتاع بالأشـــــــيــاء التي يجد فيـــــها شكلا خارجيـــا لواقعـــــــه الخـــــاص الداخــــلي »(2) ان الموضوع المخلوق كالمرآة تمــــــامـا يعكس لــــــــي صورة ما عن ذاتي, انه الشاهــــد العيني لجــوا نيــــــــــــتي والنتــيجـــة المادية لنشاطي الذهـــني, ان خلـــــق موضوع يسمح لنا بأسنة الواقع المادي الذي يكف عن ان يكون عالما خـــاما و غريبا و يتجـــــاوز الإنسان ــ بما هو كائن روحي ــ عن طريقه العلاقة القائــــــمة عـــــلى التخارج والعدوانية. لكن إذا كــــــــان الفن قادرا على تغيير علاقتنا المباشرة مع الواقع اليومي. ألا يؤدي ذلك إلى إلغاء كل علاقة نفعية مـــــــــع الواقع ؟ ان الفن بما هو خلق يتجاوز العلاقة النفعية مع الواقع. فالخلق الفني له خصوصية تمـــــــــيزه على كـــــــل الإنتاجات الإنسانية الأخرى. فهو لا يرمي إلى أية غاية نفعية, إذ ليست غاية الفن إشـــــــباع حاجـــــاتــــــــنـــا المعيشية. ان ما يرمي إليه الفنان هو خلق الجمال و بالتالي فان علاقته الاقتصادية مع الواقع تـــكــــــــون مؤجلة أو بين قوسين إلى حين. ان الفنان ينتج عملا غير قابل للاستهلاك أو المبادلة أو الاستـــعـــــــمــــال. ان المنتوج الفني خلق, لأن الفنان لا يغير فقط العلاقة مع الواقع بل يغير أيضا و بشكل ما الواقــــع نفســــه فهـــو يبدع و يتخيل و يخلق صورا, ان الفنان لا يحاكي الواقع و لا يستنسخه بل يحوله و يعيد تركـــــــيبــــه و يخلقــــه من جديد : فالموسيقى لا تقلد شدو العصافير و النحت ليس نسخة مطابقة للمثال, فأي واقع يحاكــيــه الفــــــــــــن التجريدي مثلا, هل ثمة واقع يحاكيه موندران mondrian* برسومه التكعيبية وبلعبة الخطــــــــوط الأفقية و العمودية التي نجدها في لوحاته ؟ ولكن إذا كان الفن يقطع مع الواقع و يبعدنا عنه ألا يتــــحول عــــــــندها إلى مجـــــرد وهم ؟ ألا يبعدنا عندئذ عن الحقيقة ؟ ان الفن منبع للوهم و يغير العلاقة التي يجب ان نقيمها مع الواقع أي الحقــــــــــــيقة. ذلك ان العـــمـــــــــــل الفنــــــــــي و لأن كان تغييره للواقع يرتكز على عمل روحي فان نتيجته ترتكز على مــــــــعـــطيــــات حسيـــــــــــة ) الشكل, الصوت, اللون( فالمشاهد يتأمل أو يسمع العمل الفني الذي ينعطي له بواسطة الإدراك الحســــــــــي رغم ان اللذة الجمالية و الإحساس بالجميل ليسا مجرد لذة حسية فان الفن مع ذلك يخاطب انفعالاتـــــنا الحسيـــة. من هذه الزاوية ينقد أفلاطون الفن و يطرد الفنانين من جمهوريته و ذلك أولا لأن الفن لــــــيس إلا تقليدا للمظاهر الحسية للأشياء وبالتالي فهو يكاد يفتقر للوجود فأفلاطون لا ينظر للعـــــمل الفـــــــني إلا باعتبــــــاره محاكاة : ذلك ان العمل الفني نسخة من الموضوع الحسي : فالموضوع الحسي) طاولة مثلا( تمتلك وجــــودا اقل وبالتــالي اقل واقعية من مثال الطاولة و رسم موضوع حسي) لوحة طاولة( هـــي اقـــل واقعـــــــــية من الموضوع نفسـه. و هكذا يبعدنا العمل الفني عن الحقيقة مرتين. ان الفن يساهم في تفقير الواقـــع و يبـــــــقى الواقع الحقيقي بالتالـي بمنأى عنه باعتباره ينتمي إلى العالم المعقول أي عالم المثل ثانيا يعيب أفلاطــــــون على الفنانين تقديمهم لــــــفن يبقي الجمهور في مستوى الانفعالات الحسية و اللذة الجســـــدية المــــغــرقة في الأيروس و غير القـــــادرة على الارتقاء إلى مستوى اللغوس , ان الفنان مخادع و بائع أوهــام يبعــــدنا عـــن الحقيقة و على البحث عنها يــــقول أفلاطون « كل الشعراء يقلدون الصور و لا يدركون الحقيقة و هـــكذا فـان الرسام و رغم انه لا يعرف شيـــــئا على السكافة قادر على رسم إسكافي يبدو حقيقيا لهؤلاء الذين يجـــهــلون مثله تماما و الذين لا يحكمـــــون إلا من خلال الألوان و الأشكال »(3) هكذا يغير الفن العلاقة مع الواقــع بمـــا هو حقيقة. ان الفنان يخدعنا فيبعدنـــــا عن الحقيقي و يغوينا فيبعدنا على البحث عن الحقيقة . يبدو إذن ان الفن يسمح بعلاقة إنسانية مخصوصة مع الواقع لأن هذه العلاقة ليست مجرد علاقة غريزيـــــة مباشرة إذ لم يعد الإنسان عبدا للطبيعة و بذلك اصبح بمقدور الإنسان ان ينتج بشكل مجاني أي بــــــــدون غايــــة نفعية مرتبطة بالحاجات المادية. غير ان هذا لا يلغي الجانب المادي من الإنتاج الفني و بقدر ما يثيــــر فيـــنــــــا العمل الفني أحاسيس و انفعالات بقدر ما يبقى كامنا في المحســــوس المتحـــــــرك و المتعدد و غـــيـــر قابــــــل للاختزال, بهذا المعنى يغير الفن علاقتنا بالواقع كحقيقة, الواقع الموضوعي الكلي و الضروري لكـــن هــل للفـن فعلا هذه القدرة ؟هل يستطيع الفن حقا ان يفعل شيئا ضد الواقع و الحقيقة ؟ أم ان الفن يبقى منــــشـــــدا للحقيــــقة و غير قادر على ان يأبق من الواقع ؟ ان الفن يرتبط ارتباطا عضويا بالواقع و بالحقيقة و بالتالي يبقى غير قادر على تغيير علاقتنا بالواقع. ذلك ان الفن بما هو تــصــعـــيد يسمح للفنان بالبقاء في علاقة مع الواقع فإذا كان الفنان قادرا على خلق اثر فـــــــــني و على إبداع حقيقة خيالية, فان هذا الخلق و الإبداع ناتج عن إحساس الفنان بعدم الإشباع تجاه الواقع الذي يحيط به, و لكن هذا الواقع التعويضي الذي يخلقه الفنان يحقق هدفين فهو من جهة يحقق إشباع اكثر من الواقع المعطى و من جهة ثانية يشد الفنان إلى هذا الواقع. فعن طريق الفن ينجو الفنان من الجنون. بهذا المعنى يقـــــيم فرويـــد مقارنة بين الفنان و العصا بي يقول فرويد « ينسحب الفنان كالعصا بي من واقع لا يرضي إلى دنيا الخـــــــيال و لكنه على خلاف العصا بي يعرف كيف يقفل منه راجعا ليجد مقاما راسخا في الواقع »(4) هكذا يجد الخلــــق الفني أصوله في التصعيد أي في الإشباع التعويضي غير المباشر للرغبات اللاشعورية المكــــــــبوتـــــــــة يقول فرويد « ان الإبداعات و الآثار الفنية هي إشباع خيالي لرغبات لا شعورية شأنها شأن الأحلام, فهي محاولات توفيق ينبغي عليها ان تتفادى أي صراع مكشوف مع قوى الكبت »(5) ان الخلق الفني لا يغير علاقتنا بالواقــع باعتباره يوفق بين مبدأ اللذة و مبدأ الواقع, فالفنان يبدع ليشبع في الخيال رغبات لا شعورية حـــــــتى يتمكن من الهروب من العلاقات الصراعية مع الواقع . ان الفن لا يغير إذن علاقتنا بالواقع بان يجعلنا نعتقد في حقيقة استشباحية وهمية و ما ينطبق هنا على الفنــــــــان ينطبق أيضا على المتلقي. لذلك يميز فرويد بين الأعمال الفنية و الحلم « فعلى خلاف الصبغة غير الاجتمــــاعية و النرجسية للحلم يراهن العمل الفني على تعاطف المشاهد باعتباره قادرا على إيقاظ و إشباع نفس الرغــــبات اللاشعورية التي لديهم »(6) ان الفن يمكننا من المحافظة على علاقتنا بالواقع اليومي و في نفس الوقت يشـــبع رغباتنا المكبوتة)الجنسية غالبا ( التي لو تحققت كما هي في الواقع لكانت مرفوضة اجتماعيا. و إذا كان الفن بما هو تصعيد يسمح للفنان بالبقاء في اتصال بالواقع فان الأثر الفنــــــي كذلك بما هو إنتـــاج *غــــيـــر نفـــعي * ليس له تأثير مباشر على علاقتنا بالواقع ذلك ان التجاوب المشترك بين الفنان و المتلـــــــقي ليست غاية واعية عند الفنان فالفنان لا يبدع إرضاء لانتظارات الجمهور و لا يرمي عن قصد إلى تغيير ســـلوك و شخصية المشاهدين, ان الأمر يجري على خلاف ذلك تماما, إذ كلما كان مقصد الفنان مرتبطا بغاية أخــــــرى خارج الإبداع الفني و الجمالي, كان عمله رديئا من وجهة نظر اســتيـتيــقـــية يمكــــن ها هنا الإحالة إلى الدعاية السياسية التي وظفت الفنانين لتمرير « خطابها » فيكون العمل الفني مباشرا لا قيمة له. و يتحول إلى مجـــــرد وسيلة تواصل, شبيه بالوسائط الإعلامية الإشهارية التي تنتمي إلى « أجهزة الدولة الإيديولوجية » بلـغة لويس التوسير : التماثيل التي تمثل العمال في الاتحاد السوفياتي الستاليني و شعر المديح … ان العمل الفني الحقيقـــي هو ذلك الذي يقطع بشكل كلي مع المقاصد الثورية. فلو كان الفن هو الذي يغير علاقتنا بالواقع لكان تطور الواقع رهين تطور الفن في حين ان العكس هو الصحيح فتاريخ الفن ينبئنا ان الواقع هو الذي يغير الفن فقد غير الفـــــن أشكاله و مضامينه انطلاقا من تغير و تطور اهتمامات الإنسان الواقعية فمررنا مثلا من المضامــــــــين الدينية للعمل الفني) الرسم و الموسيقى ( إلى أشكال اكثر إنسانية ) الحياة اليومية ( وصولا إلى التجريد و الرمزيـــــــــة المستلهمة من المضامين الفلسفية و الاجتماعية والسياسية. ان الفن إذن ليس قطعا جذريا مع العالم للإقامة في عالم خيالي. بل هو يسمح بإقامة علاقة ما بالواقـــــع الذي يفرضه علينا المجتمع و لكن ان يقيم الفن في الواقع فليس معنى ذلك انه إعادة إنتاج فجة للواقع, كما انه لــــــــيس تغييرا و قلبا للواقع و التاريخ و التنظيمات الاجتماعية. ان الفن لا يغير علاقتنا بالواقع إلا بقدر ما يحافــــــظ على خصوصيته وهي ان يكون غــير نفــعي و لكن ان يكون الفن غير نفعي. فهل معنى ذلك ان الفن لا قيمة لـــه؟ هل يستحيل الفن إلى مجرد لعبة مجانية و ترف فكري ؟ ان الفن يهذب حكمنا الجمالي و يجعلنا نقيم علاقة جديدة مع العالم. انه يكشف لنا حقيقة مغايرة لتلك الحقيـــقة المنبثقة عن علاقتنا اليومية بالواقع. وهو إذ يفتح أمامنا هذا الأفق الجديد يتجاوز هذه العلاقة المستهلكة اليومية مع العالم و لكن دون ان يفقدنا الإحساس بالواقع. فالفن بما هو إنتاج إنساني يجد أرضيته في الواقع و في المــادة دون ان تكون غايته إشباع الحاجات المادية و لذلك فهو يكشف عن روحانية الإنسان و يسمح للإنسان بالوعي بهــــــذه الروحانية بما ان المادة في العمل الفني تتشكل بفعل تلك الروحانية. ان الإنسان يستطيع ان يرى روحانيته تتجسد أمامه بواسطة العمل الفني يقول هيغل « يتمثل هدف الفن و حاجته الأصلية في ان يظهر للعـــــيان ما يتولد عن الروح من التمثلات والتصورات و في ان يجليها باعتبارها عمل هذا الروح »(7) فبواسطة الأعمال الفــــــــنية تخرج للوجود أحاسيس وانفعالات )غيرة, حقد, حب, اعتقادات( كانت موجودة بداخلنا دون ان نتمــــــكـــن من إدراكها بوضوح أليس ذلك ما يجعلنا نتماثل مع بطل رواية أو فيل | | |
| مواضيع ذات صلة بـ هذا الموضوع | | | |
12/3/2013, 00:14 | |
| تذكر قوله تعالى :َ ما يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ | | | |
لذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 19 ( الأعضاء 1 والزوار 18) | عضويتي |
تعليمات المشاركة | تستطيع إضافة مواضيع جديدة تستطيع الرد على المواضيع تستطيع إرفاق ملفات تستطيع تعديل مشاركاتك
كود HTML معطلة
|
| |
| |
| | |
| | |
|