فلسفة الفن عند نيتشه وهيدجر
معزوز عبد العالي(*)
1- مفهوم الفن في فلسفة (فـ-نيتشه)
يحتل الفن في فلسفة نيتشه مكانة الصدارة، ففلسفته تستدعي الفن بشكل قوي إلى الحد الذي يجعله يقول "وفي هذا الكتاب ذاته تتردد عبارة صعبة بمقتضاها لا يجد العالم تبريره سوى طظاهرة فنية أو جمالية" (ص: 16 ميلاد المأساة). كما يضيف قائلا في مكان آخر "لأن كل حياة تقوم على المظهر والفن والوهم وزاوية النظر والمنظارية والخطأ" (ص17، ميلاد المأساة) فالفن عنده هو النشاط الميتافيزيقي بامتياز.
* فما هو الحد الذي يعطيه للفن؟ إن الفن صنع للمظاهر (Apparences). والمظهر عند نيتشه ليس تمثيلا للحياة، بل هو الحياة. المظهر هو الحقيقة لأنها لا يمكن أن تقوم سوى كمظهر. ليس المظهر زيفا أو وهما أو ظلا للحقيقة كما يزعم أفلاطون الذي أقصى الشعراء من جمهوريته. من هذا المنظور قام نيتشه بقلب الأفلاطونية، معيدا الاعتبار للحسي والشهوي (le Sensible, le Sensuel) بعدما تم ابتلاعه من طرف المافوق حسي (le Supra-sensible).
فهو لا ينفك يتحدث عن الفيلسوف-الفنان في مقابل الفيلسوف النظري.
إن الفن يتعدى كونه مجرد نشاط خاص بالفنان، ليتحول على يديه إلى منظار للحياة.
يتبنى نيتشه مفهوما للفن يخرج من حدود الدائرة الجمالية، ويتحول إلى نشاط ميتافيزيقي أكثر منه نشاطا خاصا بالفنان وحده، فإذا أمكن تجاوز الميتافيزيقا فلا يكون ذلك سوى بواسطة الفن الذي يصوغ ميتافيزيقا جديدة هي إثبات للحياة، وتبجيل لها، واحتفال بها عوض الميتافيزيقا القديمة التي قامت على نفيها لصالح ما يتجاوزها أي لصالح العدم وإرادة العدم أي إرادة إنكار ونفي الحياة.
ها نحن نرى أن الفن مشروع لمجاوزة الميتافيزيقا لأنه هو نفسه يحل محلها كنشاط ميتافيزيقي يقوم بالقضاء على النزعة العدمية (Nihilisme) التي طالما شكلت خلفية للميتافيزيقا، وبذلك يعتبر الفن مفتاحا لاستراتيجية نيتشه الفلسفية الرامية للقضاء على العدمية. في المصطلح النيتشوي توجد عدة أسماء لمسمى واحد، وعدة محمولات لنفس الموضوع: سقراطية أفلاطونية، مسيحية، ميتافيزيقا، حداثة، فكلها تشير إلى النزعة العدمية وإلى إرادة نفي الحياة.
تقوم استراتيجية نيتشه على آلية القلب (Renversement) التي تعيد الاعتبار إلى ما تم نفيه: الحياة. فالغاية من قلب الأفلاطونية هي العودة إلى "المنسي": إلى الحسي والشهوي، إنه تبجيل لإرادة النفي، في المصطلح النيتشوي، لا تحيل الأفلاطونية والسقراطية والمسيحية إلى اتجاهات فلسفية أو إلى مشارب عقائدية، إنها كلها تشكلات لإرادة النفي.
قلنا سابقا إن الفن مفتاح لاستراتيجية نيتشه الرامية إلى قلب العدمية، والانتقال من إرادة النفي إلى إرادة الإثبات (V/d’affirmation): إثبات مفارقات الحياة وتناقضاتها، وتحويلها إلى ظاهرة فنية وجمالية خلقية بأن تعاش ويعمل في إطار هذه الاستراتيجية على ابتداع ونحت كوكبة من المصطلحات موجهة للقضاء على إرادة النفي: النشوة، المرح، الرقص، الضحك. "أيها الناس الممتازون تعلموا إذن الضحك". الفن يجعل الحياة ممكنة بل وجديرة بأن تعاش، إنه خلاص (Salut) ولكن ليس بالمعنى المسيحي طالما أنه ليس هروبا من رعب الوجود وعبثه: خلاص ليس بمعنى التعلق بحقيقة ما فوق الوجود الحسي وإنما بمعنى تحويل رعب الوجود وعبثه إلى مظاهر فنية يكون بموجبها هذا الرعب جميلا، وهذا العبث سخرية وضحكا، وهذا الألم انتشاء، (Ivresse).
إن نظرية نيتشه في الفن تتعارض مطلقا مع وجهة النظر الرومانسية (Romantisme) فهو لا يجد أساسا للفن في ذاتة الفنان وهو ما درجنا على تسميته بالإبداع والخلق إن استبعاد الذاتية ضرورة تفترضها مجاوزة الميتافيزيقا، لأن الميتافيزيقا، قائمة على مبدإ الذاتية. من يبدع في الفن ليس الفنان، بل هو الحياة نفسها، ولكن ليس الحياة المنحطة المتقهقرة، بل الحياة القوية وجوهرها إرادة القوة التي تخترق الفنان، فيتلبس بلبوسها، وينطق بلسانها. كلما نأي الفنان عن ذاتيته، وذاب في فوران الحياة واندفاع إرادة القوة صار أقرب إلى المفهوم الحقيقي للفن، فالرومانسية قد تتطلب من الفنان تقمص الطبيعة، والتغني بها، ولكنه في هذا التقمص وهذا التغني لا يفارق ذاتيته. فالفن الذي تحركه إرادة القوة هو الأقرب إلى روح المأساة (l’Esprit tratigique)، وهنا يعود نيتشه إلى المأساة الإغريفية من حيث إنها التمثيل الأسمى للفن، وكان ازدهار روح المأساة عند الإغريق قبل مجيء السقراطية التي وأدت المأساة لصالح الجدل (Dialectique)، فالجدل هو أول أعراض المرض الذي بدأ ينخر عظام الثقافة اليونانية. ومثل طبيب يقوم بتشخيص الأعراض يقابل نيتشه بين الصحة والمرض، بين القوة والانحطاط. إن الجدل في السقراطية (Socratisme) عرض وإرهاص للأمراض التي بدأت تدب في جسد الثقافة اليونانية، وتراجع لمظاهر الصحة والعافية المتجسدة في المأساة. الجدل تعالي على الحياة، وتوحيد لأضدادها، وحل لتناقضاتها، أما المأساة فإثبات لرعب الوجود، وتعميق لتناقضات الحياة، وإذكاء لمفارقاتها، الجدل نفي للحياة، ووهن لقوتها، أما المأساة فإثبات للحياة وشهويتها.
الروح المأساوية هي ملهمة كل فن عظيم، لأنها علامة على صحة الفن دون انحطاطه إلى الدرامية والرومانسية، الروح المأساوية هي المحررة لقوى الطبيعة والمطلقة لها من عقالها. يوظف نيتشه تأويلا رمزيا للأساطير اليونانية لتقريب مفهوم الفن من القارئ بل إن هذه الرمزية تخترق فلسفة نيتشه من أقصاها إلى أقصاها. وها هو يمثل لروح المأساة بالإله ديوميزوس (Dionysos) رمز النشوة والاسراف (Ivresse, Excés)، رمز تدفق قوى الطبيعة وانفلاتها من عقالها وهو ما يغني ويغذي نبع الفن، فديونيزوس رمز لعودة الإنسان إلى أصله الطبيعي-الحيواني الذي طالما افتقده للعيش في تناغم كوني. وما مسخ الإنسان في الأسطورة اليونانية إلى كائن نصفه آدمي ونصفه حيواني وهو ما يسمى بـ(Satyre) سوى عودة لهذا التناغم الكوني المفقود، وتحرير للإنسان من ذاتيته. والفن المأساوي هو مشاركة للقوى الديونيزوسية في انطلاقها، واندماج في ركاب قوى الطبيعة المنفلتة من عقالها، أن الفن اسراف وانتشاء لا محدود.
غير أن الديونيزوسي (le Dionysiaque) بما هو زخم ودفق للقوى اللاعقلانية ليس سوى وجه لعملة الفن، والابولوني (l’Appolonien) بما هو تنظيم لهذه القوى المندفعة في المظهر الجميل (la Belle apparence) وجهها الآخر. فالفن يتغذى من الديونيزيسي زخما وانطلاقا وإسرافا، ومن الابولوني يتغذى اعتدالا (Mesure) وانسجاما ومقدارا. إن الاله أبولون صانع المظاهر الجميلة، وبعبارة أخرى، أن الفن كما يحدده نيتشه اندماج لقوة ديونيزوس، وجمال أبولون. ولكن هذا الاندماج أبعد ما يكون عن المصالحة أو التصالح (Réconciliation) والمهادنة، إنه صراع حتى الموت. فالقوى الديونيزيسية المنفلتة من عقالها، تشكل تهديدا مستمرا لاعتدال المظهر الابولوني، إنها الفوضى التي تهدد النظام. وما جمال واعتدال المظهر الابولوني سوى تأجيل لتهديد ونفي القوة الديونيزيسية.