ترجمة: عبد الحي أزرقان
أقترح، لكي نتجنب كل تناول أخلاقي للمسألة، ولكي لا نصدر حكما مسبقا على نظام الأسبقية بين الأخلاق والسياسة، أن نستعمل بصددها حدودا تفيد التقاطع بين الأخلاق والسياسة بدل حدود تفيد التبعية. إني أرى هنا مجالين يبتعد أحدهما عن الآخر، ويطرح كل واحد منهما إشكالية أصيلة، ويخلق جانبا مشتركا، وذلك بالضبط نتيجة تقاطعهما. وتكمن الملاحظة الثانية في كوني لا أريد أن أناقش التقاطع بين دوائر ثلاث: الاقتصادية والسياسية والإيتيقية. وإن كنت أباشر عملي وفق هذه الطريقة فذلك لأنني أنتظر أن تمدني المقارنة بين الاقتصادي والسياسي بالوسيلة التي تمكننا من الحصول على خصوصية السياسي لكي نواجهه فيما بعد بشكل أفضل مع الإيتيقا. وإذا كانت علاقات السياسي بالإيتيقا هي ذاتها علاقات أصيلة، والأكثر من ذلك حادة، فإن الأمر يتم في حدود كون السياسي يثير مشاكل وصعوبات خاصة لا يمكن اختزالها في الظواهر الاقتصادية. لهذا أقترح الشكل الآتي الذي يضع ثلاثة دوائر تتقاطع فيما بينها وتنتج عن تقاطعها نواحي مشتركة بين كل دائرتين وبين الدوائر الثلاثة(1).
الإيتيقي
السياسي
الاقتصادي
I- في كون السياسي ينبغي تحديده أولا انطلاقا من علاقاته بما هو اقتصادي واجتماعي قبل مواجهته مع ما هو إيتيقي
إذا كان من الممكن تحديد شيء ما كعقلانية سياسية، كما سأحاول البرهنة على ذلك فيما بعد، فإنه ينبغي مقابلته مع العقلانية الاقتصادية الاجتماعية. وأعتمد هنا على عمل حنة أرندت Hannah Arendt وعمل إيرك ڤايل Eric Weil، الأولى مؤلفة وضع الإنسان الحديث(2) والثاني مؤلف كتابين أساسيين الفلسفة الأخلاقية والفلسفة السياسية(3). يشترك هذان الكاتبان في الفكرة القائلة إن الدائرة الاقتصادية الاجتماعية تقوم أساسا على الصراع المنظم ضد الطبيعة، وعلى التنظيم المنهجي للعمل، وعلى عقلنة العلاقات بين الإنتاج والتبادل والاستهلاك. يظل مؤلفانا بهذا الصدد وفيين للتعريف الخاص بالمجال الاقتصادي المطور منذ أرسطو وانتهاء إلى هيجل مرورا بالاقتصاديين الإنجليز. يحدد النظام الاقتصادي بالنسبة لجميع هؤلاء المؤلفين الكلاسيكيين بالأحرى كآلية اجتماعية مجردة بدلا من أن يتحدد كجماعة تاريخية ملموسة. كان أرسطو يصف الجانب الاقتصادي كامتداد للتعاون الذي يمكن أن نشاهده داخل منزل ما. تحاول حنة أرندت الحفاظ على هذه العلاقة بين الاقتصاد و"المنزل" حسب الأصل الإغريقي لكلمة اقتصاد: أُفَضِّلُ اتباع نهج هيجب الذي يعرف الجانب الاقتصادي كآلية للحاجيات، وإذن كـ"دولة خارجية"، ليؤكد بواسطة هذا النعت على الاختلاف مع الاندماج الناتج عما هو داخلي بالنسبة لجماعة تاريخية ملموسة، وذلك بفضل عاداتها وتقاليدها. يبدو لي مفيدا الحفاظ على تلميح هيجل هذا، وتخصيص مصطلح المجتمع، تمشيا مع إيرك ڤأيل، للآلية الاقتصادية، وترك مصطلح الجماعة للتبادلات الحاملة لآثار العادات والتقاليد. إن المستوى الاقتصادي الاجتماعي، بمعنى من المعاني، مجرد، وذلك في حدود كون الحياة الاقتصادية لوطن ما تكون مدمجة في السياسة عبر القرارات المتخذة من طرف الدول. لا أنفي هذا الجزء المشترك بين الاقتصادي والسياسي، ولكنه من المهم التأكيد على أن ما أسميناه تجريدا هو بالضبط ما يميز النظام الاقتصادي-الاجتماعي، إنه مجرد فعلا، وتجريده مدعم من طرف الاستقلالية المتنامية والمترتبة عن تكون سوق عالمية وعن عولمة طرق العمل. لا أريد، بقولي هذا، التقليل من قيمة العقلانية الاقتصادية، بل إنني متفق تماما مع ماركس -وقد سار في نهجه بصدد هذه النقطة إيرك ڤايل- في كون التنظيم العقلاني للعمل كان، وما زال كذلك إلى حدود نقطة معينة، المربي الكبير للفرد على العقل، إنه يشكل فعلا تأديبا مفروضا على الاعتباطية الفردية. إن إنسان التقنية والحساب الاقتصادي والآلية الاجتماعية هو أول إنسان يعيش بشكل شمولي، ويفهم بواسطة هذه العقلانية الشمولية. تكتسي الموافقة على هذه النقطة أهمية كبرى بالنسبة لتعريف صحيح للسياسة، بالخصوص للدولة، وذلك لأن نوعا من الحداثة ظهر مع اتساع القطاع الاقتصادي-الاجتماعي للمجموعات التاريخية. يمكن القول: توجد الدولة الحديثة هناك حيث يوجد مجتمع العمل المنظم من أجل الصراع المنهجي للإنسان ضد الطبيعة. إن المجتمع الحديث هو المجتمع الذي يكون فيه هذا الصراع المنظم، والمرتبط بالأولوية المعطاة للحساب والفعالية، ينحو إلى أن يصير المقدس الجديد، هذا إن لم نقل إنه يلغي بكل بساطة الفرق بين المقدس والأرضي. إن المجتمع الذي يتحدد كليا بالاقتصاد سيكون بالضبط مجتمعا أرضيا بشكل كلي. ولتوضيح الجوانب التي يتميز بها السياسي عن الاقتصادي سنفحص الفرضية المعكوسة التي تجعل من السياسي مجرد متغير للاقتصادي. هذا ما حدث على الأقل مع الماركسية اللاحقة على ماركس، إن لم يكن قد وقع مع ماركس نفسه. إن الثغرة الكبرى في الماركسية، في نظري، هي عدم منح غاية للسياسي متميزة بشكل فعلي، وعدم الاعتراف في الوقت ذاته بجانب مرضي خاص به، وذلك نظرا للتفريط في تقديم دور أنماط الإنتاج في تطوير المجتمعات. نحن نعرف أن الاستلابات السياسية بالنسبة للماركسية الأرتودكسية لا يمكنها أن تعكس الاستلابات الاقتصادية. فكل شر الحياة الجماعية لا ينتح إلا عن فائض القيمة المؤول هو ذاته كاستغلال للعمل في إطار منظور قائم على الربح وحده. إذا كان من الممكن البرهنة على أن الاستغلال مرتبط بالامتلاك الخاص لوسائل الإنتاج، فسيكون كل نظام سياسي في هذه الحالة صالحا إن هو اقترح محو الاستلاب الاقتصادي الناتج عن الامتلاك الخاص لوسائل الإنتاج، والناتج أخيرا عن استغلال العمل عبر انتزاع فائض القيمة - إن هذا الاختزال للسياسي في الاقتصادي مسؤول عن عدم الاهتمام الملاحظ عند المفكرين الماركسيين بالمشاكل التي تطرحها ممارسة السلطة: مشاكل سياسية في العمق كما سنرى ذلك فيما بعد. لقد أصبح بالنسبة لأوربا وبالنسبة لباقي العالم، عبارة عن مأساة مروعة كون ماركس، وبالخصوص كون الماركسيين لم يروا في الصراعات الشعبية التي انتهت إلى الليبرالية السياسية الاقتصادية بالشكل الذي عرفته به في القرن 19 داخل البلدان الأنجلوسكسونية، سوى مجرد انعكاس مزيف لليبرالية. وعن هذه المماهاة بين الليبرالية الاقتصادية والليبرالية السياسية نتج الخطأ المأساوي الذي كان سيؤدَّى حسبه عن حذف الليبرالية الاقتصادية بضياع الأرباح السياسية المحضة لصراعات تاريخية قديمة من أجل الاستقلال الذاتي، كصراعات المجموعات الحضرية الإيطالية وصراعات الفلاند Flandres وألمانيا. أرى من جهتي في الماركسية اللينينية، بغض النظر عن طريقة تفكير ماركس ذاته مبدعة لهذه المماهاة المأساوية بين الليبراليتين. أقول مماهاة مأساوية لأنه نتجت عنها ميكافيلية سياسية حقة، وكذلك في حدود كون غياب تفكير سياسي مستقل ترك المجال مفتوحا لكل التجارب السياسة، بما في ذلك التجارب الكليانية، مادام أن اللجوء إلى الاستبداد كان مبررا بالامتلاك الخاص لوسائل الإنتاج المأخوذة كمعيار وحيد للاستلابات الحديثة. أود تركيز التأمل الآتي، المخصص بالضبط لخصوصية السياسي بالنسبة للدائرة الاقتصادية والاجتماعية، على خلفية هذا الخلط المهول بين الليبرالية الاقتصادية والليبرالية السياسية، ستكون المواجهة بين الإيتيقي والسياسي بذلك أكثر سهولة. واقترح كخطوة انتقالية التأكيد مع إيرك ڤايل على ما يسميه بعدم ارتياح الإنسان الحديث، حيث يقول: "إن الفرد في المجتمع الحديث غير راض نهائيا عن وضعه". لماذا؟ لسببين على الأقل. أولا لأن المجتمع الذي يتحدد انطلاقا من مفاهيم اقتصادية فقط هو بالأساس مجتمع الصراع والمنافسة، مما يجعله يمنع الأفراد من جني ثمار العمل. إنه مجتمع تتواجه فيه الطبقات والمجموعات من غير تحكيم. يحافظ الشعور بالظلم الذي يفرزه المجتمع العقلاني تجاه تقسيم المجتمع إلى مجموعات وطبقات وفئات، نقول يحافظ هذا الشعور على عزلة ولا أمن الفرد المتروك للميكانيكية الاجتماعية. باختصار يبدو العمل على مستوى المجتمع الاقتصادي عقلانيا من الناحية التقنية، وفي آن واحد عديم المعنى من الناحية الإنسانية. ويكون الفرد في المجتمع الحديث المعتمد على العمل، من جهة أخرى، غير مرتاح، بل يكون ممزقا لأنه لا يجد معنى في مجرد الصراع ضد الطبيعة وفي الدفاع عن الحساب الفعال. وتعتبر هذه الملاحظة صحيحة بشكل كبير، حيث نجد أن المعنى، على الأقل في المجتمعات الصناعية المتقدمة، يتم البحث عنه أكثر فأكثر خارج العمل، وحيث أصبح العمل مجرد وسيلة لربح وقت الراحة الذي أصبح بدوره منظما وفق النموذج التقني للعمل. باختصار لقد توقف العمل في المجتمعات المتقدمة على أن يكون المربي الكبير على العقلانية التي كان هيجل وماركس يسندانها إليه.
فعن عدم الرضى المزدوج هذا ينتج اللجوء إلى التقليد الحي الذي تنطوي عليه المجموعة التاريخية، كما ينتج عنه كذلك اللجوء إلى هذا الغنى التاريخي الذي ينحو المجتمع العالمي للعمل المنظم بالضبط إلى اختزاله وتدميره وتذويبه. من هنا تأتي المفارقة الغريبة التي انغلقت فيها المجتمعات المتقدمة في وقتنا الحاضر: فمن جهة تضطر الأوطان الحديثة إلى الدخول في المنافسة التكنولوجية من أجل ضمان البقاء، ولكنها تدفع بنفسها في هذه الحدود، من جهة أخرى، نحو الممارسة الهدامة المنجزة من طرف التكنولوجيا التي أصبحت سائدة على النواة الإيتيقية السياسية لهذه المجتمعات. يعاني إنسان المجتمعات الصناعية المتقدمة، الذي تم وضعه في ملتقى الاقتصادي والسياسي، من التناقض الكامن بين منطق التصنيع والعقلانية القائمة على التجربة السياسية للشعوب. فمن أجل الهروب من هذا التناقض نجد كثيرا من الناس، شبابا وغير شباب، يعودون إلى الحياة الخاصة بحثا عن الحياة في إطار "خوصصة السعادة". إننا نلاحظ هذه الحماية الضروسة لمجال مغلق خاص داخل كل المجتمعات الصناعية المتقدمة سواء أكانت غربية أو شرقية. إنها لمسألة أساسية بالنسبة لتأملنا اللاحق الذي سيركز على التقاطع مع الإيتيقا أن ترجع للسياسي كرامته الخاصة به. إذا كان للسياسي مطلب كبير مرتبط بالاستقلالية ينبغي منحه القيمة المستحقة في وجه الاقتصادي التقني، فإنه سيكون هو مطلب معنى الممارسة العقلانية، معنى لا ينفصل، كما سنقول ذلك لاحقا، عن الأخلاق الحية وعن النية الإيتيقية. اسمحوا لي التلميح عابرا بتمييز مصطلحي يعبر جيدا عن طبيعة موقفي. سأفرق بين العقلاني والمعقول وأقول إن المستوى التقني الاقتصادي لحياة المجتمع لا يرضي سوى مقتضيات العقلاني. لهذا يكون الإنسان غير راض، ولهذا يبحث عن المعقول داخل الشمولي الملموس الذي يحدد السياسي بما هو سياسي.
II- السياسي والدولة
يتحدد السياسي بشكل واسع انطلاقا من الدور المركزي الذي تحتله الدولة داخل الجماعات التاريخية شريطة تحديد الدولة في مداها الواسع. سأقوم بذلك مع إيرك ڤايل الذي يكتب ما يلي: "إن الدولة هي تنظيم مجموعة تاريخية، وتستطيع المجموعة المنتظمة في إطار دولة أخذ القرارات"(4). سأركز على مصطلحات هذا التعريف، وأركز في البداية على التعبير الجماعة التاريخية. أن نتكلم عن جماعة تاريخية معناه أن نضع أنفسنا بعيدا عن أخلاق صورية فقط حتى وإن كنا لا نغادر، كما سنرى ذلك لاحقا، أرض القصد الإيتيقي. إننا نلاحظ فعلا أنه، عن طريق محتوى التقليد والقواعد المقبولة والرمزيات المتعددة الأنواع، تستمر الهوية السردية والرمزية للجماعة. فعبر تعبير الجماعة التاريخية والشعب نمر من المستوى الصوري إلى المستوى الملموس. ماذا نقصد الآن بجماعة منتظمة في إطار دولة؟ ينبغي أن نفهم من هذا المصطلح (التنظيم) التمفصل المدرج بين عدد متنوع من المؤسسات والوظائف والأدوار الاجتماعية ودوائر الأنشطة، ذاك التمفصل الذي يجعل الجماعة التاريخية كلا عضويا. إن هذا التنظيم بالضبط وهذا التمفصل هما اللذان يجعلان من الممارسة الإنسانية ممارسة معقولة. إننا بعيدون مرة أخرى عن الأخلاق الصورية المحضة، ذلك لأن العقلانية هنا لا تحصر في توافق الفرد مع ذاته بصدد الأوامر الأخلاقية. إنها تريد أن تكون عقلانية ممارسة جماعية. هكذا تتحدد مهمة الفلسفة السياسية انطلاقا من هذا الانتباه المولى لما ينطوي، داخل الحياة السياسية، على ممارسة معقولة في التاريخ. نقول بلغة إيريك ڤايل: كيف تكون الحرية المعقولة للفرد ناتجة عن اندماجه السياسي؟ أو أيضا: كيف يمكن للمسار السياسي للحرية أن يكون مسارا معقولا؟ يمكننا تلخيص هذا المسار في كلمة: إنه المسار الممتد من الفرد إلى المواطن. سأعرِّف من جهتي بكل طواعية فلسفة السياسة كتأمل في المواطنة. هناك صيغة ل إيرك ڤايل تسير في هذا الاتجاه: "إن هدف التنظيم العالمي هو إرضاء الأفراد المعقولين داخل الدولة الفردية الحرة" (المرجع نفسه، الصفحة 240).
ونلاحظ الآن أن السؤال الآتي يطرح نفسه: بأي معنى ينبغي القول إن الدولة هي التي تنظم الجماعة؟ يجعل التعريف المقترح أعلاه من الدولة عضو قرار الجماعة التاريخية. يقصي هذا التعريف كون الدولة مصطنعة كما أراد ذلك هوبز. والأكثر من هذا فإنه يلغي اختزالها في مجرد اعتباطية، كما لو كانت كل دولة، على مستوى الفعل أو القوة، استبدادا يحمل القمع والاضطهاد. وحتى إن كان أصل جميع الدول لا يخلو من العنف الذي يترك أثره على كل واحدة منها، كما سنرى ذلك فيما بعد، فإن العنف ليس هو الذي يحدد الدولة، وإنما غايتها هي التي تتولى ذلك، ونقصد مساعدتها للجماعة التاريخية على صنع تاريخها. وهذه هي النقطة التي تجعل منها مركز القرار، أما فيما يتصل بهدف هذا القرار فيمكننا تلخيصه في كلمة: إنه بقاء الجماعة التاريخية ووجودها المستمر، وهذا ضدا على جميع التهديدات، الخارجية منها والداخلية. يتفرع التحليل، انطلاقا من إرادة البقاء هذه، إلى اتجاهين يحددان أسلوبين مختلفين لفلسفة السياسة، وذلك حسب ما إن كنا نشدد على الشكل أو على القوة. تشدد الفلسفات العقلانية، مثل كل فلسفات القرن الثامن عشر وكذلك في لغتي حنة أرندت وإيرك ڤايل، بكل طواعية على الشكل أكثر مما تشدد على القوة. ويشدد الماركسيون وكل المفكرين الكليانيين على القوة. لنقل حالا إن كل تأمل في القوة يؤدي مباشرة إلى اللغز الذي تشكله ظاهرة السلطة، بينما يؤدي التأمل في الشكل الخاص بالوظيفة العقلية والملموسة للدولة إلى التركيز على الوجه الدستوري الذي هو عبارة عن ميزة لدولة الحق. لنفهم من دولة الحق دولة تضع الشروط الفعلية والضمانات التي تقتضيها مساواة الجميع أمام القانون. سنعود إلى هذه النقطة حينما سنتناول الجوانب المشتركة بين الإيتيقا والسياسة. لنتوقف الآن عند التشديد على الصورة القانونية -وهي على أي مشروطة تماما- التي ستؤكد عليها بكل طواعية الفلسفة العقلانية الموجهة نحو الشكل بدل القوة. والنتيجة هي أن التشديد سيقع على استقلالية الوظيفة العمومية، وعلى خدمة الدولة من طرف بيروقراطية منسجمة، وعلى استقلالية القضاة، والمراقبة البرلمانية، وبالخصوص على تربية الجميع على الحرية عن طريق المناقشة. تشكل كل هذه المعايير الجانب المعقول للدولة: إنها دولة الحق التي تراقب فيها الحكومة بعض القواعد المشرعة التي تحد من عشوائيتها. إذا اقتصرنا على تتبع هذا الخط من التفكير فقط، فإن الوظيفة المعقولة للدولة ستكون في نهاية المطاف هي التوفيق بين عقلانيتين: العقلاني التقني الاقتصادي والمعقول الذي يراكمه تاريخ التقليد. إن الدولة في هذه الحالة تركيب بين العقلاني والتاريخي، بين الفعال والعادل، وتكون فضيلتها هي الفطنة بالمعنى الإغريقي والوسطوي لفضيلة الفطنة. ونقصد بهذا أن فضيلتها هي الإبقاء على الجمع بين معيار الحساب الفعال ومعيار التقاليد الحية التي تعطي للجماعة طابع هيئة خاصة تهدف إلى الاستقلالية والاستمرارية. لنقل أيضا إن هذه العقلانية تمنح للدولة الحديثة مهمة المربي (بواسطة المدرسة والجامعة والثقافة ووسائل الإعلام...إلخ). غير أنه ينبغي الاعتراف بكون فكرة دولة تربي فقط هي فكرة محدودة وفكرة موجهة، لا يطابقها إلى حد الآن أي وصف تجريبي، ومع ذلك فإن فكرة الدولة المربية هذه هي التي تتلخص فيها النواة المعقولة التي تستخرجها منها الفلسفة حينما تتساءل عن شروط ممارسة تاريخية معقولة. ولكن هناك الوجه الآخر للمسألة، وهو الدولة من حيث كونها قوة. لم يفت السوسيولوجي الألماني الكبير إدماج مكون القوة هذا في تعريفه للدولة الذي يركز مع ذلك على فكرة دولة الحق. لا يمكن تعريف الدولة بالنسبة إليه إذا لم ندرج في وظيفتها احتكار العنف الشرعي. لن أتردد في قول إن المفارقة السياسية بصدد تعريف الدولة تكمن بالضبط في هذه المواجهة بين الشكل والقوة، وأتفق بكل طواعية على أن فكرة السلطة لا تختزل في فكرة العنف. فأن تمنح للدولة امتياز العنف المشروع لا يعني تعريفها انطلاقا من العنف، وإنما انطلاقا من السلطة، وذلك كيفما كان الارتباط التاريخي للعنف بالسلطة. غير أن العلاقة المرتبطة بالسلالة لا ترقى إلى مستوى منح الشرعية. لقد انحدرت كل الدول الحديثة من عنف موحدي الأراضي. إن العنف الموجود في المجتمعات التقليدية هو ذاته الذي ربى الإنسان على العمل الحديث. إنه لأمر لا نزاع فيه إذن كون الدولة الأكثر معقولية، دولة الحق، تحمل أثر العنف الأصلي لطغاة، صانعي التاريخ. تظل العشوائية بهذا المعنى ملازمة بصورة ملموسة لشكل الدولة ذاته. لا ينبغي أن تعوض الصورية السياسية الصورية الأخلاقية. كما لا يمكننا أن ننفي أيضا العنف المتستر في التمثيل اللامتساوي للقوى الاجتماعية في جهاز الدولة. هنا تكمن بدون شك حقيقة ماركس الجزئية: لا نعرف دولة لا تعطي امتيازات للطبقة السائدة في عهدها. ومن هنا يأتي الإغراء المسجل في صميم الماركسية، والذي ينتظر من العنف الثوري قلب الأدوار داخل علاقة السيادة. لكننا نسقط في هذه الحالة في خطأ هو عكس خطأ الصورية القانونية العمياء فيما يخص العنف داخل التاريخ: إن تعريف الدولة اعتمادا على العنف وحده يؤدي إلى إهمال عظمة غزوات الحرية السياسية من القرن الثاني عشر إلى القرن الثامن عشر، ويؤدي أيضا إلى إهمال الدلالة الكبرى للثورة الفرنسية، في الوقت الذي تظل فيه هذه الأخيرة ثورة بورجوازية. لقد أهمل ماركس أن الطبقة السائدة اشتغلت من أجل الجميع: لا وجود لدولة، بهذا المعنى تكون مجرد دولة طبقية، دولة لا تمثل إلى درجة ما الصالح العام. أكيد أن هذا الصالح لا تدركه أبدا أية جهة، ومع ذلك فإن الدولة الأكثر قربا من دولة الحق هي، حسب كلمة هيجل ذاتها، دولة المالكين وغير المالكين. إن الطعن في الدولة اعتمادا على كونها بورجوازية هو في الواقع قول شيئين اثنين وليس شيئا واحدا: إنها فعلا دولة الطبقات ولكنها أيضا دولة المواطن. إن وصول مجموعة ما إلى السلطة معناه الوصول إلى الشمولي الملموس، فتتجاوز بذلك نفسها كمجموعة خاصة، وتحقق عبر هذا التوصل التطابق الهش بين وظيفة شمولية وموقع من السيادة. ويفسر هذا، بدون شك، أن عنفا مستترا يستمر في التأثير على علاقة الجميع بالسلطة. تظل الحياة السياسية متأثرة بكل تأكيد بالصراع من أجل الاستيلاء على السلطة والحفاظ عليها واستعادتها، إنها صراع من أجل السيادة السياسية. هناك أخيرا عنف هو عبارة عن بقايا يستمر في إنهاك الدولة الأكثر قربا من نموذج دولة الحق، ويمس بها في هذا الجانب المتعلق بكون كل دولة هي دولة خاصة وفردية وتجريبية: ففي الوقت الذي نجد فيه البنية التقنية الاقتصادية بنية عالمية مبدئيا، نجد أن الجماعة السياسية فردية ومختلفة مبدئيا، وأن الحفاظ على هويتها يشكل جزءا من وظيفتها. والواقع أنه لا وجود لدولة عالمية وبالضبط لا وجود لدولة حق عالمية. وتظل بمثابة مشكل بالنسبة إلينا مسألة معرفة ما إذا كانت التحويلات التدريجية للسيادة إلى هيئة عالمية تسمح بأن نخول إليها احتكار العنف الشرعي الذي ينتمي إلى تعريف الدولة. يظل هذا بالنسبة إلينا أمرا مثاليا بعيدا عن منالنا لمدة طويلة، ونقصد عولمة اللاعنف، كما تمت عولمة التنظيم الحديث للعمل. ستكون الدولة -وأقصد الهيئة السياسية المجسمة من طرف الدولة- معقولة لو كان صحيحا، كما اعتقد كانط، أن عبثية الحرب ستحدث يوما ما تحويل مسؤولية الجميع نحو سلطة عالمية يكون هو التحويل ذاته الذي أسس السلم المدني على مستوى الدول الفردية. يعبر إيرك ڤايل عن تردده بصدد هذا الموضوع قائلا: "لقد كان العنف ولا يزال إلى الآن السبب المحرك للتاريخ" (المرجع ذاته ص281)، في حين إن "التقدم نحو اللاعنف يحدد للسياسة معنى التاريخ" (المرجع ذاته ص233). لا يمكن أن نعبر بشكل أفضل من هذا عن الازدواجية في تقويم الدولة، تقويم يضع طابعها الخاص بالشكل وطابعها الخاص بالقوة في مستوى واحد. لقد أصبحت هذه الازدواجية بالنسبة إلينا منبع القلق في العصر النووي. إن وجود هيئة سياسية تتجاوز المستوى الوطني وتحتكر العنف الشرعي، يصبح في وقتنا الحاضر شرط بقاء كل جماعة تاريخية، الشيء الذي يشكل، وقد رأينا ذلك، المشكل السياسي بامتياز. إن الرفع به إلى هذا السلم هو تعبير جديد عن فضيلة الفطنة التي تكلمنا عنها أعلاه. لقد سمينا الفطنة فن التركيب بين التقنية الاقتصادية والمعقول الذي راكمه تاريخ التقاليد. كنا نعرف بهذه الطريقة الفطنة الداخلية للدولة. وسيمثل المرور إلى اللاعنف المعمم الوجه الخارجي لفضيلة الفطنة. يشكل هذا اللاعنف المعمم، والذي يأخذ إلى حد ما طابعا مؤسسيا، بدون شك، الطوباوية الكبرى للحياة السياسية الحديثة. أن وجود الدولة الخاصة الحرة ذاته يتوقف في عهد التهديد النووي، على استمرار الحياة الفيزيقية للنوع البشري. إن قلبا مذهلا للأولوية يفرض نفسه على الفكر السياسي: لقد أصبحت الدولة العالمية وسيلة لضمان بقاء الدول كمربين غير عنيفين. ولكننا نعرف أن هذه الطوباوية ما هي إلا إحدى الطوباويات ما دمنا لا نعرف ما هي الخطوة الأولى التي ينبغي القيام بها في اتجاه هذا التحويل للسيادة الذي يجب أن تسلم به كل الدول بدون استثناء وفي آن واحد. في حين إن هذا القرار يسند إلى فطنة الدول التي تظل على مسرح التاريخ أفرادا عنيفين كبارا.
III- التقاطع بين الأخلاق والسياسة
لقد تم تطوير التأمل السابق خارج الأخلاق الصورية، ولكن ليس خارج حقل الإيتيقا. وعلى العكس من ذلك، فإن البحث عن العقلانية والوعد بالعقلانية المتوفرين في فكرة دولة الحق يمددان مقتضى الحق المتضمن في التعريف ذاته الذي يمكننا أن نعطيه للحرية على مستوى القصد الإيتيقي الأكثر أساسية(5). يمدد السياسي هنا الإيتيقي بإعطائه دائرة للعمل. كما يمدد أيضا المقتضى الثاني المشكل للقصد الإيتيقي أي مقتضى الاعتراف المتبادل - هذا المقتضى الذي يجعلني أقول: إن حريتك تساوي حريتي. والحال أن أخلاق السياسة لا تكمن في شيء آخر غير إبداع مجالات للحرية. وأخيرا تعطي الدولة، من حيث كونها تنظيما للجماعة، الشكل القانوني لما يبدو لنا يشكل العنصر الثالث اللامتحيز داخل القصد الإيتيقي، ونقصد القاعدة. إن دولة القانون بهذا المعنى هي تحقق القصد الإيتيقي داخل دائرة السياسة. وتعني ما يلي: يحدد القانون المدني الأدوار ويرتبها ويضعها (دور المدين والزوج والمالك...إلخ) في علاقة فيما بينها بشكل يجعل كل المؤدين للأدوار الواحدة يعاملون بتساوي من طرف القانون الوضعي. أكيد أن التساوي أمام القانون ليس بعد تساوي الحظوظ وتساوي الشروط. يقترب تأملنا هنا أيضا من الطوباوية، طوباوية دولة يمكن أن تقول: لكل حسب حاجياته. يمثل التساوي أمام القانون، على الأقل، عتبة حاسمة وهي عتبة المساواة القانونية، أي مساواة سلوك المؤسسات، حيث لا يحصل اعتبار الأشخاص حينما يسند الحق إلى ساهر ما على دور معين. لا أتردد من جهتي في أن عطي أيضا دلالة إيتيقية لالتزام المواطن داخل الديمقراطية وليس فقط للفطنة المطلوبة من الحكومات. ولا أتردد في التفكير بواسطة حدود إيتيقية في الديمقراطية المتناولة من وجهة نظر غائيتها. سأعطي بهذا الصدد تعريفا مزدوجا للديمقراطية، أولا في ارتباطها بفكرة الصراع، وبعد ذلك في ارتباطها بفكرة السلطة. إن الدولة الديمقراطية بالنسبة لفكرة الصراع، هي الدولة التي لا تقترح نفسها لمحو الصراعات وإنما تسعى إلى إبداع الطرق التي تسمح لهذه الصراعات بالتعبير عن ذاتها وبإمكانية التفاوض بصددها. إن دولة القانون بهذا المعنى هي دولة النقاش الحر المنظم. وهذا الجانب المثالي للنقاش الحر هو الذي يبرر تعددية الأحزاب. ويبقى على الأقل أن هذه التعددية بالنسبة للمجتمعات الصناعية المتقدمة الأداة غير المناسبة الأكثر ملائمة لهذا التنظيم للصراعات. هذا مع العلم أنه ينبغي، لكي يكون هذا النقاش ممارسا، ألا يجهل أحد كون الخطاب السياسي ليس علما (وهذا ضد الادعاء القائل باشتراكية علمية)، وأنه على الأصح رأي سديد. من هنا جاء التشديد في هذا التعريف على تكوين رأي عمومي حر في التعبير عن ذاته. أما فيما يخص تعريف الديموقراطية في علاقتها بالسلطة فإني أقول: إن الديمقراطية هي النظام الذي تكون فيه المشاركة في القرار مضمونة بالنسبة لأكبر عدد من المواطنين. إنها إذن النظام الذي يتقلص فيه الفاصل بين الرعية والحاكم. كان كانط قد حدد طوباوية هذا النظام حينما تصور في إطار الأمر المطلق فكرة "سيادة الغايات"، أي السيادة التي يكون في ظلها كل واحد حاكما ورعية في آن واحد. كما أن هيجل حدد الدولة الأكثر عقلانية كدولة يكون فيها كل فرد معترفا به من طرف الجميع. سأضيف إلى هذه المشاركة في القرار بكل طواعية، وفي إطار خط أقرب من تقليد مونتيسكيو منه إلى روسو، ضرورة تقسيم السلطة ضد ذاتها، هكذا كان مونتيسكيو يفصل في إطار نظرته إلى الدولة-النموذج، بين التشريعي والتنفيذي والقانوني، ولقد احتفظنا كلنا على الأقل بوجه واحد يجعلنا من استقلالية القضاة إحدى معايير الديمقراطية الأقل نقاشا. لا أريد إنهاء هذا التأمل في التقاطع الكامن بين الإيتيقا والسياسة دون الحديث عن الجانب الإيتيقي الذي تتركه السياسة بالضرورة خارج دائرتها الخاصة. إن الحفاظ على هذا النقاش الأخير هو الذي يجعلني أتكلم عن تقاطع الدوائر فقط وليس عن تطابقها. لنلاحظ أولا أن القاعدة الإيتيقية للجماعة السياسية تنحصر في القيم التي يحصل بصددها التراضي، وتترك جنبا التبريرات والتحفيزات والمصادر العميقة لهذه القيم ذاتها التي تشكل موضوع التراضي. هذا مع العلم أن المجتمعات المتعددة التكوين، والتي صارت إليها أغلبية المجتمعات الصناعية المتقدمة تظل فيها مصادر القيم متعددة ومتعارضة. هكذا فإن الديمقراطيات الأوروبية، والحديث يقتصر عليها، هي وريثة المسيحية الوسطوية والنهضة والإصلاح والأنوار والمثل التي سيطرت على إيديولوجيات القرن التاسع عشر، تلك المثل التي تأخذ أحيانا الطابع الوطني وتنزع أحيانا أخرى نحو الاشتراكية. ينتج عن هذا أن الدولة لا يمكنها أن تقوم سوى على توافقات هشة. فكلما كان التراضي بين التقاليد التأسيسية كبيرا كما كانت القاعدة واسعة وصلبة ولكن الدولة تعاني، حتى في هذه الحالة، وفي حالة التراضي المؤسس لها، من الطابع المجرد للقيم المبتورة من جذورها. لا يكون السلم الاجتماعي ممكنا إلا إذا وضع كل واحد التحفيزات العميقة المبررة للقيم المشتركة بين قوسين. هكذا تكون هذه القيم عبارة عن زهور مقطوفة وموضوعة في إناء. يفسر هذا بعض النزوع إلى إضفاء الطابع الإيديولوجي على القيم المتشبث بها. إننا نقع هنا من جديد على العيوب المرتبطة ببلاغة الخطاب السياسي، تعدي هذه البلاغة المناشدة الخاصة بالمبادئ الكبرى وذلك بمنحها نوعا من القوالب الميتة. لاشك أن الأخطر هو أن الدولة الحديثة في مجتمعاتنا المعروفة بالتعددية المفرطة تعاني من ضعف الاقتناع الإيتيقي في الوقت ذاته الذي تتمسك فيه السياسة بكل طواعية بالأخلاق. هكذا نشاهد بنايات هشة تتأسس فوق أرض ملغومة ثقافيا. أفكر خاصة في حالة بلد مثل فرنسا حيث نجد التأمل الفلسفي وكذلك الإنتاج الأدبي مفتونين بإشكالية غير إيتيقية، إن لم تكن ضد الإيتيقا، في الوقت ذاته الذي نجد هناك رغبة ناتجة عن حسن نية في تخليق السياسة. وحتى إذا كانت قاعدة الاقتناع تظل متينة، فإنها تحرم، بدخولها في الحقل السياسي، مما يعطيها دينامية على مستوى العمق، وتحرم من ذلك نتيجة هاجس مشروع هو هاجس التسامح إزاء المعتقدات النقيضة. أريد أخيرا أن أؤكد على خطر آخر معاكس للسابق ولكنه قد يعوضه. نعاين في كثير من المجتمعات المعاصرة نوعا من الإسقاط للدين على السياسي، ويطلب من السياسة أن تغير الحياة. إن خطر الاجتياح هذا الذي يمكن أن نسميه الدين الدنيوي هو بدون شك خطر لا مفر منه: كل جماعة في حاجة إلى نوع من المقدس المدني يخلد عن طريق الاحتفاء والحفلات وبسط الأعلام، وكل الحماس التبجيلي الذي يرافق هذه الظواهر. ينبغي التصريح بأننا لا نتوفر على الوضوح الكامل فيما يخص هذه النقطة. كيف يمكن أن نعطي فعلا الحيوية والدينامية للانضمام إلى المثل المشتركة بدون حد أدنى من الدين الدنيوي؟ هكذا فالواقع يجعل أن المسيحيين يتوفرون على أسبابهم لرفض هذا الانضمام، كما يتوفرون على رغبة مشتركة للإحالة عليه. سأقف على نقطة الشك هذه التي تفتح مجالا واسعا للنقاش. أود الاختتام بنصيحة حكيمة أستعيرها من ماكس فيبر ترد في محاضرته المشهورة "السياسة من حيث هي ميول". لقد صرح ماكس فيبر بتوجيهه للكلمة بعد الحرب العالمية الأولى لشباب يدافع عن السلم بأن السياسة تكسر الإيتيقا بالضرورة إلى شقين: هناك من جهة أخلاق الاقتناع التي يمكن أن نعرفها بسمو المفضل وأخلاق المسؤولية التي تعرف بالمتحقق في سياق تاريخي معين، وتعرف كذلك، يضيف فيبر، باستعمال معتدل للعنف. ولأن أخلاق الاقتناع وأخلاق المسؤولية لا يمكنهما أن تنصهران، نجد أن الإيتيقا والسياسة تشكلان دائرتين متميزتين حتى وإن كانتا تتقاطعان. سأعذر على تركيزي كثيرا عن التقاطع بين الأخلاق السياسة بدلا من التركيز عن الفارق الذي يفصل بين المراكز الخاصة بدائرة الإيتيقا والمراكز الخاصة بدائرة السياسة. يبدو لي أن الخطر في وقتنا الحاضر يكون أكبر في حالة جهل التقاطع بين الإيتيقا والأخلاق من الحالة التي يتم فيها الخلط بينهما. تتغذى الوقاحة بكل سهولة من الاعتراف البريء في الظاهر، من الهوة التي تفصل المثالية الأخلاقية عن الواقعية السياسية. وعلى العكس من ذلك، إن هاجس إعطاء معنى لالتزام المواطن المعقول والمسؤول هو الذي يقتضي أن نكون حريصين على التقاطع بين الإيتيقا والسياسة بدلا من أن نكون حريصين على اختلافهما الذي يتعذر تجاوزه.
الهوامش:
1- إن نواحي التقابل والتقاطع معلمة بالخطوط.
2 – H.Arendt, La condition de l’homme moderne; trad. Fr de G. fradier, Paris, Calmann-Lévy, 1961, reed 1983.
3 – E. Weil, La philosophie morale, Paris, Vrin, 1961 (dernière ed 1981) ; La philosophie politique, Paris, Vrin, 1956 (dernière ed 1984).
4 - E. Weil, La philosophie politique, Op.cit., proposition 31, p.131.
5- يقصد بهذا التلميح هنا دراسة أخرى خصصت للقصد الإيتيقي حيث تم التشديد بشكل متوال على التأكيد على الحرية المرتبطة بالضمير المتكلم وعلى طلب الاعتراف المنحدر من الضمير المخاطب وعلى الوساطة من طرف شخص ثالث محايد أو مؤسس. انظر (قبل القانون الأخلاقي، الإيتيقا) في Encyclopaeda universalis 1984.