قنديل أم هاشم
يحيى حقي
استمع9
[center]
[center]
[center]
[center]أشرف على الميدان، فإذا به يموج كدأبه بخلق غفير ضربت عليهم المسكنة، وثقلت بأقدامهم قيود الذل. ليست هذه كائنات حية تعيش في عصر تحرك فيه الجماد. هذه الجموع آثار خاوية محطمة كأعقاب الأعمدة الخربة، ليس لها ما تفعله إلاّ أن تعثر بها أقدام السائر. ما هذا الصخب الحيواني؟ وما هذا الأكل الوضيع الذي تلتهمه الأفواه؟ يتطلع إلى الوجوه فلا يرى إلاّ آثار استغراق في النوم كأنهم جميعًا صرعى أفيون. لم ينطق له وجه واحد بمعنى إنساني. هؤلاء المصريون: جنس سمج ثرثار أقرع أمرد، عار حاف، بوله دم، وبرازه ديدان. يتلقى الصفعة على قفاه الطويل بابتسامة ذليلة تطفح على وجهه. ومصر؟ قطعة "مبرطشة" من الطين أسنت في الصحراء، تطن عليها أسراب من الذباب والبعوض، ويغوص فيها إلى قوائمه قطيع من الجاموس نحيل. يزدحم الميدان ببائعي اللب والفول، وحب العزيز، ونبوت الغفير، والهريسة والسمبوسكة، بمليم الواحدة. في جنباته مقاه كثيرة على الرصيف بجوار الجدران، قوامها موقد وإبريق وجوزة. أجساد لم تعرف الماء سنين. الصابون عندها والعنقاء سواء. تمر أمامه فتاة مزججة الحواجب، مكحلة العينين، شدت ملاءتها لتبرز عجيزتها وطرف ثوبها، وتحجبت ببرقع يكشف عن وجهها. وما معنى هذه القصبة التي تضعها على أنفها؟ أف! ما أبشع رياء هذا المنظر وما أقبحه! سرعان ما بدأ الناس يتحككون بها كأنهم كلاب لم يروا في حياتهم أنثى! هنا جمود يقتل كل تقدم وعدم لا معنى فيه للزمن، وخيالات المخدر، وأحلام النائم والشمس طالعة.
لو استطاع إسماعيل لأمسك بذراع كل واحد منهم وهزه هزة عنيفة وهو يقول:
- استيقظ. استيقظ من سباتك وأفِق، وافتح عينيك. ما هذا الجدل في غير طائل؟ والشقشقة والمهاترة في سفاسف؟ تعيشون في الخرافات، وتؤمنون بالأوثان، وتحجّون للقبور وتلوذون بأموات!
وعثرت قدمه بطفل ملقى على الرصيف، والتف حوله جموع من الشحاذين يعرضون عليه عاهات يرتزقون منها رزقًا حلالاً. كأنها من نعم الله عليهم، أو مِهَن وصناعات.
وشعر إسماعيل بأن هذه الجموع أشلاء ميتة تطبق على صدره وتكتم أنفاسه، وتُبهِظُ أعصابه. يصطدم به بعض المارة كأنهم عُمْي يتخبطون. هذا الرضا عجز، وهذه الطيبة بلاهة، وهذا الصبر جبن، وهذا المرح انحلال.
انفلت إسماعيل من الزحام، وجرى إلى الجامع ودخله واجتاز الصحن إلى الحرم. المقام يتنفس بدل الهواء أبخرة ثقيلة من عطور البرابرة. هذا هو القنديل قد علق التراب بزجاجه واسودّتْ سلسلته من "هبابه". تفوح منه رائحة احتراق خانقة. أكثر ما ينبعث منه دخان لا بصيص ضوء. هذا الشعاع إعلان قائم للخرافة والجهل. يحوم في سقف المقام خفاش اقشعر له بدنه. حول المقام أناس كالخشب المسندة وقفوا مشلولين متشبثين بالأسوار. فيهم رجل يستجدي صاحبة المقام شيئًا لم يفهمه إسماعيل وإنما وعى أنه يستعديها على خصم له، ويسألها أن تخرب بيته وتيتم أطفاله. والتفت إسماعيل إلى ركن في المقام فوجد الشيخ درديري يناول رجلاً معصوب الرأس بمنديل نسائي زجاجة صغيرة في حرص وتستر. كأنما هي بعض المهربات. لم يملك إسماعيل نفسه. فقد وعيه، وشعر بطنين أجراس عديدة، وزاغ بصره، ثم شب، وأهوى بعصاه على القنديل فحطمه وتناثر زجاجه، وهو يصرخ:
- أنا... أنا... أنا..
ثم لم يستطع أن يتم جملته. (ومن يدري ماذا كان سيقول؟) هجمت عليه الجموع، وتهدمت فوقه، فخرّ على الأرض مغمى عليه. ضربوه، وداسوه بالأقدام، وجرح رأسه، وسال الدم على وجهه، ومزقت ثيابه.
علمنا بعد ذلك أنه أشرف على الموت تحت الأقدام لولا أن تعرف عليه الشيخ درديري، فأنقذه واستخلصه من غضب الناس وعنفهم، وهو يقول:
- اتركوه! إنني أعرفه. هذا سي إسماعيل ابن الشيخ رجب من حتتنا. اتركوه. ألا ترون أنه "مريوح"؟!.
واحتمله إلى الدار، ووضعوه على الفراش، واجتمعت الأسرة في ليلة الفرح بعودته تبكي صوابه المفقود.
لعن الله اليوم الذي سافرت فيه يا إسماعيل! ليتك ظللت بيننا ولم تفسدك أوربا فتفقد صوابك، وتهين أهلك ووطنك ودينك.
صكت الأم وجهها، وتأوه الأب وكتم ألمه وغيظه وسكبت فاطمة دموعها مدرارًا.
[/center]
[/center]
العودة لصفحة قنديل أم هاشم[/center]
[/center]
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]