قنديل أم هاشم
يحيى حقي
استمع8
[center]
[center]
[center]- يا إسماعيل. ما أقساك! وما أجهل الشباب!
كادت أمه يغمى عليها، وانعقد لسانها وهي تضمه وتقبل وجهه ويديه، تشهق وتبكي. يا لله! كم شاخت وتهدلت وضعف صوتها وبصرها! إن الغائب في وهم، يتوقع أن يعود لأحبابه فيجدهم كما تركهم منذ سنوات. صوت يهمس في قلبه:
- ليست لها من الشخصية نصيب! ليست إلاّ كتلة من طيبة سلبية.
وجاءه أبوه تفيض عليه ابتسامة هادئة. اشتعل شيبه وإن لم تنحن قامته، في عينيه نظرة مشوبة من إعياء وصبر، من راحة ضمير وشعور بالحمل الثقيل. سيعلم إسماعيل فيما بعد أن الأزمة كوته بنارها فانتكست أموره، ومع ذلك لم يتأخر في يوم ما عن موعد إيداع النقود بالبنك لابنه. لم يذكر لإسماعيل ما يعانيه أو يدعوه إلى الاقتصاد أو يستعجله للعودة. يلهو إسماعيل في إسكتلندة مع رفيقته، يأكل البفتيك، وأبوه قعيد داره، عشاؤه طعمية أو فجل.
لإسماعيل نظرة من طرف عينيه تطوف في الدار، فإذا هي أضيق أوأشدّ ظلمة مما كان يذكر. أما يزال ضوءُهم من مصباح البترول؟ قطع الأثاث بالية متناثرة تبدو - رغم مر السنين وطول الصحبة - كأنها مهاجرة في دار غربة، ولماذا هم على البلاط؟ وأين البساط؟
هذه أم محمد ترتبك كعادتها بين الأطباق والحلل، وهي تزغرد فيزجرها ويقول لها:
- بس بلاش خوْته، يا وليه اعقلي.
ولكن أين فاطمة النبوية؟ أقبلت، فإذا أمامه فتاة في شرخ الصبا. ضفيرتاها، وأساورها الزجاجية الرخيصة، وحركاتها، وكل ما فيها وما عليها، يصرخ بأنها قروية من أعماق الريف. هل هذه هي الفتاة التي سيتزوجها؟ علم منذ اللحظة أنه سيخون وعده وينكث عهده، وما لها معصوبة العينين؟ فهي ترفع ذقنها لتستطيع أن ترى وجهه. لم يدعها الرمد منذ سافر وساء حالها يومًا بعد يوم.
وأُعِد العشاء وجلسوا، ولعلهم جلسوا من أجله حول مائدة لهم من الخشب الأبيض، لم يأكل عليها أحد. لم يأكلوا هم من حدة الفرح، ولم يأكل هو من صدمة اليقظة. اعترف لي إسماعيل فيما بعد بأنه - حتى في اللحظة التي كان يجب أن تشغله سعادة العودة إلى أحضان والديه عن القياس والمقارنة والنقد - لم يملك نفسه عن التساؤل! كيف يستطيع أن يعيش بينهم؟! وكيف يجد راحته في هذه الدار؟!
وأعد الفراش. وأبي الشيخ رجب إلاّ الانصراف إلى غرفته ليترك ابنه يستريح من عناء السفر. وهذه أمه تجذب نفسها جذبًا وتهم بتركه، ولكنها تشير إلى فاطمة وتقول:
- تعالي يا فاطمة، قبل أن تنامي، أقطر لك في عينيك.
ورأى إسماعيل أمه وفي يدها زجاجة صغيرة، وترقد فاطمة على الأرض وتضع رأسها على ركبة الأم، فتسكب من الزجاجة في عينيها سائلاً تتأوه منه فاطمة وتتألم.
سألها إسماعيل:
- ما هذا يا أمي؟
- هذا زيت قنديل أم هاشم، تعودت أن أقطر لها منه كل مساء. لقد جاءنا به صديقك الشيخ درديري. إنه يذكرك ويتشوق إليك. هل تذكره؟ أم تراك نسيته؟
قفز إسماعيل من مكانه كالملسوع. أليس من العجيب أنه - وهو طبيب عيون - يشاهد في أول ليلة من عودته، بأية وسيلة تداوى بعض العيون الرمداء في وطنه؟
تقدم إسماعيل إلى فاطمة فأوقفها، وحلّ رباطها، وفحص عينيها، فوجد رمدًا قد أتلف الجفنين وأضر بالمقلة، فلو وجد العلاج المهدئ المسكن لتماثلت للشفاء، ولكنها تسوء بالزيت الحار الكاوي، فصرخ في أمه بصوت يكاد يمزق حلقه:
- حرام عليك الأذية. حرام عليك. أنت مؤمنة تصلين، فكيف تقبلين أمثال هذه الخرافات والأوهام؟
وصمتت أمه وانعقد لسانها، تحاول أن تتمتم ولا تبين.
ورأى إسماعيل شبح أبيه على الباب، في جلباب أبيض قصير وعلى رأسه طاقية تحتها وجه مربد. هل يتوقع قلبه الحنون مكروهًا؟ ماذا؟ لعل في تصرفات إسماعيل وحركاته ونظراته ما أيقظ في نفسه منذ اللحظة الأولى بعض الريبة. ما هذا الصراخ؟ ماذا حدث؟
ونطقت أمه أخيرًا تستعيذ بالله وتقول له:
- اسم الله عليك يا إسماعيل يا ابني. ربنا يكملك بعقلك هذا غير الدوا والأجزا. هذا ليس إلاّ من بركة أم هاشم.
وإسماعيل كثور هائج لوحت له بغلالة حمراء.
- أهي دي أم هاشم بتاعتكم هي اللي حتجيب للبنت العمى، سترون كيف أداويها فتنال على يديّ أنا الشفاء الذي لم تجده عند الست أم هاشم.
- يا ابني ده ناس كثير بيتباركوا بزيت قنديل أم العواجز جربوه وربنا شفاهم عليه. إحنا طول عمرنا جاعلين تكالنا على الله وعلى أم هاشم. ده سرها باتع.
- أنا لا أعرف أم هاشم ولا أم عفريت.
هبط على الدار صمت مقبض. في هذا البيت تعيش قراءة القرآن والأوراد، وصدى الأذان. كأنها جميعًا استيقظت وانتبهت، ثم أطرقت وانطفأت، وحل محلها ظلام ورهبة. لا عيش لها مع هذه الروح الغريبة التي جاءت لهم من وراء البحار.
وسمع صوت أبيه كأنما يصل إليه من مكان سحيق:
- ماذا تقول؟! هل هذا كل ما تعلمته في "بلاد بره"؟ كل ما كسبناه منك أن تعود إلينا كافرًا؟
كل ما فعله إسماعيل بعد ذلك يدل على أن المرض العصبي القديم قد عاوده فجأة، وانفجر بشدة من جديد. فقد وعيه وشعر بحلقه يجف، وبصدره يشتعل، وبرأسه يموج في عالم غير هذا العالم; شب على قدميه واقفًا. لا شك أن في نظرته ما يخيف، فقد تضاءلت الأم أمامه، وابتعد الأب عن طريقه. هجم إسماعيل على أمه يحاول أن ينتزع منها الزجاجة، فتشبثت بها لحظة ثم تركتها له. فأخذها من يدها بشدة وعنف، وبحركة سريعة طوح بها من النافذة.
وكان صوت تحطمها في الطريق كدوي القنبلة الأولى في المعركة.
ووقف إسماعيل حائرًا لحظة، له نظرة تجوب ما حوله وتنتقل من وجه أمه وفاطمة إلى وجه أبيه. وجد إشفاقًا وعطفًا ولم يجد تسامحًا وفهمًا. ربما استشف في نظرتهم بعض الرعب، فتزايد هياجًا وانطلق إلى الباب. وفي طريقه وجد عصا أبيه فأخذها ثم هرب من الدار جريًا. لن ينكص عن أن يطعن الجهل والخرافة في الصميم طعنة نجلاء - ولو فقد روحه.
[/center]
العودة لصفحة قنديل أم هاشم[/center]
[/center]
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]