قنديل أم هاشم
يحيى حقي
استمع6
[center]ومرّت سبع سنوات، وعادت الباخرة.
من هذا الشاب الأنيق السمهري القامة، المرفوع الرأس، المتألق الوجه، الذي يهبط سلم الباخرة قفزًا؟ هو والله إسماعيل بعينه. أستغفر الله! هو الدكتور إسماعيل، المتخصص في طب العيون، والذي شهدت له جامعات إنجلترا بالتفوق النادر، والبراعة الفذة. كان أستاذه يمزح معه ويقول له:
- أراهن أن روح طبيب كاهن من الفراعنة قد تقمصت فيك يا مستر إسماعيل. إن بلادك في حاجة إليك، فهي بلد العميان.
رأى فيه دراية كأنها ملهمة، وصفاء هو سليل نضج أجيال طويلة، ورشاقة أصابع هي وريثة الأيدي التي نحتت من الحجر الصلد دمًى تكاد تحيا.
أقبل يا إسماعيل، فإنّا إليك مشتاقون. لم نرك منذ سبع سنوات مرت كأنها دهور. كانت رسائلك المتوالية، ثم المتراخية، لا تنفع في إرواء غلتنا. أقبل إلينا قدوم العافية والغيث، وخذ مكانك في الأسرة، فستراها كالآلة وقفت بل صدئت لأن محركها قد انتزع منها. آه! كم بذلت هذه الأسرة لك! فهل تدري؟
لم يَنم إسماعيل ليلة الوصول إلاّ غرارًا. قفز إلى ظهر الباخرة مع الفجر يريد ألاّ يفوته أول ما يبدو من شاطئ الإسكندرية لا يرى شيئًا على الأفق، ولكن خياشيمه تتشمّم في النسيم رائحة لم يألفها من قبل، أول من لقيه من وطنه، مخلوقٌ الكون كله وطنه، طائر أبيض منفرد يحوم حول السفينة، طليق متعال نظيف، وحيد. لماذا تتعمد البواخر كل هذا التلكؤ عند الوصول، وما كان أسرعها عند الفراق؟ إنها تتهادى بدلال العودة، فما لها وللركاب وما يشعرون! كتم إسماعيل عن أهله موعد الباخرة حتى لا يكلف أباه الشيخ مشقة السفر للإسكندرية. في عزمه أن يبرق إليهم بموعد وصول قطاره للقاهرة، هذا هو الفنار المتمنطق، وهذا هو الشاطئ الأصفر يكاد يكون في مستوى الماء. أنت يا مصر راحة ممدودة إلى البحر لا تفخر إلاّ بانبساطها. ليس أمامك حواجز من شعاب خائنة، ولا على شاطئك جبال تصد، أنت دار كل ما فيها يوحي بالأمان.. ها هو أول قارب يظهر، فيه شيخ قد وخط الشيب لحيته، مقوس الظهر، أَقْعَى كالقرد في مقدم قاربه يصطاد، جلبابه الأزرق، أو الذي كان أزرق، ممزق مرقع. وقعت نظرة إسماعيل على سيدة مصرية وقفت بجواره، فرآها مطلة على الصياد مغرورقة عيناها بالدموع وسمعها تتمتم:
- مصر! مصر!
كيف ينتبه لها الصياد، وهو لم ينتبه للباخرة كلها؟! مثلها كثيرات داخلات خارجات تكاد تصدم قاربه، ولكن هيهات لها أن تصدم عالمه المقفل. عالم يجري على وتيرة واحدة متكررة يومًا بعد يوم. هم إسماعيل أن ينادي هذا الشيخ ويلقي عليه السلام أو يلوح له بمنديل. كيف تسقط المقاييس وينهزم المنطق في مثل تلك اللحظات التي تتأجج فيها العواطف وتصفو القلوب! ورنّ جرس إيذانًا بموت الباخرة، فأصبحت جثتها فريسة لجيش من النمل البشري يهاجمها. جنود وضباط، وإخواننا المحتلون ولو أنهم أخلاط مطربشون، وحمالون وصيارفة وزوار. ثم اندلق الزحام والتدافع، وتعالت النداءات، وكثر العناق والتقبيل. وإسماعيل وسط التيار غير مغمور يلتقط بنهم كل ما يصل إليه. وعلى شفتيه ابتسامة حلوة مطمئنة. له أذن فارزة واعية، ونظرة حية يقظة تريد أن ترى كل شيء، وتفهم كل شيء. إذا دققت النظر إليه وجدت تكورات وجهه قد زالت، وشُدّ شدقاه في أخدودين، كانت شفتاه مرتخيتين، قلما تنطبقان، أما الآن فقد ضمهما عزم ووثوق. يجتاز الجمارك. وفي العربة يستمع لوقع عجلاتها بين الأسفلت والبلاط، فيذكره تنافر النغم وتناوبه بيوم السفر. كم يبدو له هذا اليوم مترديًا في هوة من ماض بعيد. بعيد كالحلم.... كيف تقوى ذكرى هذا اليوم على البقاء بعد سبع سنوات قضاها في إنجلترا قلبت حياته رأسًا على عقب؟ كان عفًّا فغوى، صاحيًا فسكر، راقص الفتيات وفسق. هذا الهبوط يكافئه صعود لا يقل عنه جدة وطرافة. تعلم كيف يتذوق جمال الطبيعة ويتمتع بغروب الشمس - كأن لم يكن في وطنه غروب لا يقل عنه جمالاً - ويلتذ بلسعة برد الشمال.
إن لم يكن له في هذه الفترة سوى "ماري" زميلته في الدراسة لكفى بها في نسيان ماضيه. لقد أخذ هذا الفتى الشرقي الأسمر بلبها فآثرته واحتضنته. عندما وهبته نفسها، كانت هي التي فضّت براءته العذراء، أخرجته من الوخم والخمول إلى النشاط والوثوق، فتحت له آفاقًا يجهلها من الجمال: في الفن، في الموسيقى، في الطبيعة، بل في الروح الإنسانية أيضًا.
قال لها يومًا:
- سأستريح عندما أضع لحياتي برنامجًا أسير عليه.
فضحكت وأجابت:
- يا عزيزي إسماعيل، الحياة ليست برنامجًا ثابتًا، بل مجادلة متجددة.
يقول لها:
- "تعالي نجلس"
فتقول له:
- "قم نسِر".
يكلمها عن الزواج، فتكلمه عن الحب. يحدثها عن المستقبل، فتحدثه عن حاضر اللحظة. كان من قبل يبحث دائمًا خارج نفسه عن شيء يتمسك به ويستند إليه: دينه وعبادته، وتربيته وأصولها، هي منه مشجب يعلق عليه معطفه الثمين. أما هي، فكانت تقول له: "إن من يلجأ إلى المشجب، يظل طول عمره أسيرًا بجانبه يحرس معطفه. يجب أن يكون مشجبك في نفسك". إن أخشى ما تخشاه هي: القيود. وأخشى ما يخشاه هو: الحرية. كانت هبتها له في مبدإ الأمر محل حيرته، فكانت حيرته محل سخريتها. كان يتجافى الناس ويقدر احتمالات وُدِّهم، ويهتم كيف يكون حكمهم عليه، وإذا لقي من تريحه المجاملة لا يجد بأسًا في مجاملته، وقلبه غير مشارك. التعارف عنده اصطدام بين الشخصيات يخرج منه ظافرًا أو خاسرًا. أما هي، فتهيم بالناس جميعًا، ولا تهتم بهم جميعًا. التعارف عندها لقاء، والودّ متروك للمستقبل، ومع تساوي وُدِّها للناس جميعًا، كانت بتارة في إقصاء الضعيف، والسخيف، والمتعالم، والرذل، والحزين، والمنافق. فلما تخلصت من هذه الأوشاب، أصبحت لا ينجذب إليها إلاّ من تطمئن لصحبتهم.
رأته يطيل جلسته بجانب الضعفاء من مرضاه، ويخصّ بعطفه من يلحظ فيه آثار تخريب الزمن للأعصاب والعقول - وما أكثرهم في أوربا، يجلس صامتًا ينصت لشكواهم. وكان أكبر كرم منه أن يماشي منطقه منطقهم المريض. لحظته "ماري" وحلقة المرضى والمهزومين تطبق عليه يتشبثون به. كل يطلبه لنفسه. فأقدمت وأيقظته بعنف:
- أنت لست المسيح بن مريم! "من طلب أخلاق الملائكة غلبته أخلاق البهائم!" و"الإحسان أن تبدأ بنفسك".
هؤلاء الناس غرقى يبحثون عن يد تمد إليهم، فإذا وجدوها أغرقوها معهم! إن هذه العواطف الشرقية مرذولة مكروهة; لأنها غير عملية وغير منتجة، وإذا جردت من النفع، لم يبق إلاّ اتصافها بالضعف والهوان، إنما هذه العواطف قوتها في الكتمان لا في البوح!
كانت روحه تتأوه وتتلوى تحت ضربات معولها. كان يشعر بكلامها كالسكين يقطع من روابط حية يتغذي منها، إذ توصله بمن حوله. واستيقظ في يوم، فإذا روحه خراب لم يبق فيها حجر على حجر. بدا له الدين خرافة لم تخترع إلاّ لحكم الجماهير، والنفس البشرية لا تجد قوتها، ومن ثم سعادتها، إلاّ إذا انفصلت عن الجموع وواجهتها. أما الاندماج فضعف ونقمة.
لم تقْو أعصابه على تحمل هذا التيه الذي وجد نفسه غريقًا وحيدًا في خلائه، فمرض وانقطع عن الدراسة، وافترسه نوع من القلق والحيرة، بل بدت في نظرته أحيانًا لمحات من الخوف والذعر.
وكانت "ماري" هي التي أنقذته، أخذته في رحلة إلى الريف بإسكتلندة، يجولان بالنهار مشيًا أو على الدراجة بين الحقول أو يصطادان السمك، وبالليل تذيقه من متعة الحب أشكالاً وألوانًا. من حسن حظه أنه استطاع أن يجتاز هذه المحنة التي يتردى فيها الكثيرون من مواطنيه الشباب في أوربا وخلص منها بنفس جديدة مستقرة ثابتة واثقة. إن اطرحت الاعتقاد في الدين فإنها استبدلت إيمانًا أشد وأقوى بالعلم. لا يفكر في جمال الجنة ونعيمها، بل في بهاء الطبيعة وأسرارها. ولعل أكبر دليل على شفائه أنه بدأ يتخلص من سيطرة "ماري" عليه. أصبح لا يجلس بين يديها جلسة المريد أمام القطب، بل جلسة الزميل إلى زميله. لم يدهش، ولم يتألم كثيرًا، عندما رآها تبتعد عنه وتنصرف إلى زميل من جنسها ولونها. إنها ككل فنان يمل عمله حين يتم. شفي إسماعيل ففقد كل سحره، وأصبح كغيره ممن تعرفهم، فلتجرب إذًا صديقها الجديد. على أن إسماعيل لم يقْو على مغادرة إنجلترا دون أن يسعى إلى لقائها لآخر مرة. دعاها فلم ترفض وجاءته. ولم يسأل نفسه: أعلى عِلمٍ من صديقها الجديد، أم على غفلة منه؟ ووهبت له نفسها مرةً أخرى، فهذه العلاقة ليست عندها بذات بال ولا خطر. كانت ضمّتها له نوعًا من المصافحة وسلام الوداع، وهتفت به وهي تنصرف على دراجتها:
- آمل أن أراك في مصر يومًا من الأيام، ومن يدري؟ فإلى اللقاء إذًا، ولا أقول وداعًا.
نساء العصر الحديث! كم ذا يواجهن الاحتمالات بقلوب ثابتة. شجرة الحياة أمامهن مثقلة بالثمر منوّعته. لهن شهية مفتوحة فلم التأسي والبكاء على ثمرة، والشجرة مفعمة؟
العودة لصفحة قنديل أم هاشم [/center]
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]